منذ ثلاث سنوات ، رغم أنه مضي الكثير من الوقت على وفاة والده ، ولكن هذا الشاب لم ينسى تفاصيل يوم وفاة والده بعد ،في يومها تواصل معه والده قبل أن يموت ببضعة دقائق ، وطلب طلباً غريباً وهو يحتضر على فراش الموت ، ولكن لم يكن مدركاً مدى غرابة الطلب على قدر حزنه وأسفه على فراقه وأن هذه المكالمة ستكون أخر مرة يسمع به صوت والده الحبيب.
في لحظتها كان الشاب يقوم بعمل ببعض الأوراق الخاصة بالهجرة والجوازات ، لأنه كان يرغب بالسفر إلى إحدى دول الخليج بحثاً عن العمل بعد معاناة طويلة من البطالة ..
لم تمر سوى دقائق قليلة على إنهاء مكالمته مع والده ، فتتصل به والدته وتخبره الخبر الصادم وهو وفاة والده .
فقد صوابه في تلك اللحظة ، ولم تعد أقدامه تحمله من وهل الصدمة ، غادر المكان فوراً دون أن يستكمل أوراقه ، خرج وهو يؤشر دون وعي إلى أي سيارة مارة لتنقله إلى المنزل بأقصى سرعة .
وبدأ بالتفكير بكل ما أخبره والده مستغرباً من وصية والده .. ! فقد طلب منه هذا الشيء بالتحديد الذي كان يمنعه منه طوال حياته .
دخل المنزل ليجده مستلقياً على سريره دون أي نفس ، ووالدته وأخته يجلسان بجانبه والدموع تملأ أعينهم ، دخل وهو بالكاد يجر قدمه خلفه من الصدمة ، كان فعلاً يلتقط أخر أنفاسه وشاحب اللون ، وعيناه جاحظتان من أثر الاحتضار ، ولكن سبابة يده اليمنى متصلبة تجاه الغرفة ، رغم أنه مات وفقد إحساسه بأي شيء من حوله ، وكأنه يشير إلى الغرفة التي أوصاه أن يدخلها وينقذ روحه وبقية الأسرة من المصيبة التي ستحل عليهم قريباً كما أخبره .
كانت هذه الغرفة منسية تماماً وكأنها لم تكن موجودة في المنزل ، فقد كان الدخول إليها ممنوع قطعاً ، والباب مقفل بإحكام شديد ، حيث لا يستطيع أحد من فتحها.
بعد انتهاء العزاء ، أخبر والدته بالوصية ، انتابها خوف شديد بمجرد التفكير في الأمر ، وأصبحت تترجاه وتتوسل إليه حتى لا يدخل هذه الغرفة ، فكر الشاب بذلك ووافق بأن لا يدخلها بعد إلحاح والدته الغريب وخوفها عليه .
بقي قرابة شهر كامل في المنزل من بعد وفاة والده ، اسودت الدنيا في نظره ولم يعد يطيق فعل أي شيء من بعد فقدانه لوالده في المنزل الذي أصبح عبارة عن ذكريات مؤلمة مختبئة في كل زاوية من زوايا المنزل ، مما جعله يعاود التفكير في السفر ، من حسن حظه تيسرت أمور السفر في هذه المرة ، ولم يكن بحاجة إلى الانتظار أكثر .
كانت أفضل سنة له هناك هي أول سنة ، ولم تكن إلا عبارة عن تسديد ديون لا أكثر ، حيث كان مكسبه الشخصي لا يغطي كافة احتياجاته الشخصية ، ثم قضى سنتين كانتا الأسوء على الإطلاق في حياته ، لم يكن في جعبته سوى جنيه واحد فقط ، وتم طرده من أكثر من وظيفة من دون إبداء الأسباب من أصحاب الشغل ، وتدين الكثير من الأموال ، حتى طرد من الشقة أيضاً لأنه لم يستطع إكمال حق الإيجار ل 3 أشهر متواصلة ، بقي في الشارع ، ثم قررت الحكومة إعادة ترحيله إلى مصر بعدما خسر كل شيء ، مما زاد وضعه سوءً أكثر مما كان عليه .
عاد إلى المنزل مكسور الخاطر رغم أن كل الذين سافروا قبله ، تحسنت أحوالهم ، وكانت عائلتهم تستقبلهم أحسن إستقبال ، إلا هذا الشاب المسكين كان استقباله بارداً من قبل الجميع ، وكلام والده الأخير يرن في أذنيه ، كانت هذه الغرفة بمثابة نافذة الأمل الوحيدة التي تبقت له من بعد وفاة والده ، أصر على والدته بكل ما يملك من أسلوب وعزيمة بأن تقوم بفتح هذه الغرفة الغامضة له ، لم يكن لدى والدته الخيار سوى فتح هذه الغرفة .
فتحت والدته جميع الأقفال على الباب ، لتتفاجئ بمظهر الغرفة الفارغ تماماً ، لم يكن بداخله أي شيء سوى مكتبة قديمة مهترئة يملؤها الغبار بطبقات كثيفة من بعد هجرتها لسنين طويلة ، دخل وبدأ بالبحث عن شيء لا يعلمه متأملاً أن يرى شيئاً يفيده ، لفت انتباهه درج صغير بارز من المكتبة كأن أحداً فتحه ونسي أن يقفله منذ أخر مرة فتحت فيها الغرفة.
فتح الدرج فإذا بورقتين جديدتين وكأنهما كتبتا الآن ، ولا يوجد ذرة غبار عليهما ، رغم أن الغرفة لم تفتح لسنين طويلة .
كل ورقة مكتوبة بلغة مختلفة عن الأخرى ، الأولى
كانت عبارة عن رموز غير مفهومة ومثلثات ومربعات ودوائر متشابكة وخطوط عشوائية في كل جزء منها، وفي ظهرها كلام باللغة العربية غير واضحة سوى اسمه المكتوب بخط بارز والباقي كلام ليس له معنى وحروف متداخلة بطريقة مزعجة.
أما الورقة التانية كانت رسالة من والدي كتبها قبل أن يموت بلحظات ، وفيها كلمات معدودة ، لم يكن يحتاج الكثير من الوقت حتى يقرأ محتوى الرسالة ، ورد فيها :
" الورقة الأولى وسيلة نجاتك الوحيدة، حتى لو التضحية لها ثمن غالي ولكنها ستجعلني أموت مرتاحاً.. أنقذ نفسك وعائلتك، وامضي العقد بدمك بسرعة "
في تلك اللحظة لم يفهم شيئاً من محتوى الرسالة ، كان يعتقد أن فتح الغرفة هو المنقذ الوحيد لتغيير مستقبله و خلاصه من الضياع ، ولكنه لم يجد سوى جملة في ورقة .
الغريب في الأمر هو خوف عائلته عليه من دون أسباب واضحة من أجل ورقة صغيرة ، بقي يقلب الورقة يميناً يساراً لعله يرى شيئاً غريباً لم يلاحظه في أول مرة أو كلام غير واضح يحاول فهمه ، ولكن دون نتيجة ، لم يستطع فك لغز تلك الحروف والكلمات الغريبة .
لم يفارق صوت والده أذنيه مما جعله يزيد إصراراً بأن هناك شيئاً يجب معرفته .
بينما والدته لم تتحرك أمام الباب وهي تطرقه بقوة وتردد عبارة واحدة :
" الذي يدخل هذه الغرفة لا يمكنه الخروج منها مثل ما دخل أبداً "
مر نصف ساعة وهو يبحث دون نتيجة ملموسة ، قرر الخروج من الغرفة ، فسمع صوت مخيف يردد في أذنيه :
حان دورك يا عمر !.
فجأة زاد سمك الورقة بين يديه ، وبدت أطرافها حادة جداً كأنها سكينة وليست ورقة ، والرموز والأحرف بدأت تكون تجويفات لداخل الورقة بطريقة غريبة ، والأغرب من هذا أن الورقة التصقت بيديه ، وهو يحاول إبعادها عنه بكل الوسائل حتى اضطر إلى جرح نفسه بطرف من أطرافها ، ثم وجدها تنزلق من يديه لوحدها.
حاول إيقاف نزيف يديه بأي طريقة ، والورقة الغامضة أخذت كل انتباهه وتفكيره ، من دون أن ينظر إلى دمه الذي يملأ كل التجويفات في الورقة ، لتشكل الرموز العشوائية مع الدم صورة شخص !
من كان هذا الشخص ؟!
كانت صورة والدته....
تشوش تفكيره ، ولم يستطع استيعاب ما يحدث حوله ، شعر للحظة بأنه عاجز عن الحركة على رغم من إحساسه بكل شيء حوله ، حتى صراخ والدته في الخارج وخوفها عليه وإصرارها الغريب بالدخول ، لكن الباب لم يفتح هذه المرة .
" لقد دخلت ورأيت الغرفة يا عمر ! اخرج من هناك أرجوك .. "
كان صوت والدته يتردد في أذنيه مع ذلك الصوت المخيف وهو ملقى على الأرض دون أي حركة ، فيقاطعه صوت أحد الجيران وهو يطرق الباب بعنف ، طالباً منه الخروج ، لكنه لم يجد أملاً بأن يفتح الباب أو يرد عليه فقام بكسر الباب ودخلوا ووالدته ، ليتفاجئوا به ملقى على الأرض دون أي أثر لدم أو ورقة ،حتى الصوت الغريب قد اختفى واستعاد وعيه وكأن شيئاً لم يكن.
ماذا حصل ؟!
لم يستطع وصف ما حصل لوالدته ، وكيف يبرر ذلك ، فأخبرها بأنه بدأ يسترجع ذكرياته مع والده ، رحمه الله ، حتى وقع على الأرض من دون أن يشعر بجسده ، انتهى كل شيء في يومها من دون أن يخبر أحداً بالأحداث التي وقعت في الغرفة ، وأغلقت الغرفة مرة أخرى لأجل غير مسمى.
بعد مرور يومين ، خرج عمر ليكمل عملية البحث عن عمل حتى يشغل نفسه عن التفكير في ما حصل ، وفي أول مقابلة للعمل في شركة كبيرة جداً ، تم قبوله مباشرةً دون سؤاله أي نوع من الأسئلة وكأن المدير كان ينتظره حتى يتقدم لهذه الوظيفة ، شعر بأن الدنيا بدأت بفتح أبوابها له ، لدرجة أنه لم يصدق أن ما حدث في تلك الغرفة هي سر نجاحه كما أخبره والده.
انتباه شعور لا يوصف من السعادة والفرح ، حتى يتفاجئ بردة فعل والدته عندما قالت : ما هذا الشحوب على وجك يا بني ؟!...
ذهب مسرعاً ليرى ذلك الشحوب الذي تحدثت عنه والدته وأخبرته أنه كالطين داكن جداً ، على الرغم أن ملمسه لم يكن يوحي بذلك على الإطلاق ،
دخل الحمام ليتفاجئ أن وجهه نظيف تماماً ، لدرجة أنه اكتشف شقوق غريبة في المرآة من فرط تركيزه و محاولته البحث عن ما قالته والدته ، بدأت تلك الشقوق تتزايد بالتدريج حتى أصبحت واضحة ،وفي نفس الوقت تختفي صورته ، و تتبدل بصورة شخص أخر يبتسم ابتسامة ليست بغريبة عنه .... كانت صورة والدته مرة أخرى ! بدأت تلك الشقوق في المرآة بالتوسع والمسافات بينها تزداد بالتدريج و تنقط دماً ، وفي نفس اللحظة ابتسامة والدته في الصورة تحولت لدموع، وصراخها يرن في أذنيه والذي كان من المستحيل أن يبقى وهم أو تخيلات.
كان الصوت خارج من غرفتها ، ولم يكن هناك أحداً في المنزل سواهما ، ركض نحو غرفتها كالمجنون ،
فوجدها على سريرها تتألم وترتدي ملابساً سوداء !
رغم أنها قابلته بملابس مختلفة منذ دقائق .
كانت تنزف من عينيها وجبهتها لدرجة أن السرير أصبح أحمر اللون من دمها، وشحوب وجهها يزيد
أكثر فأكثر ليصبح مخيفاً جداً ، ركض إلى غرفته ليحضر صندوق الإسعافات الأولية بسرعة ، وألف فكرة تراوده في الثانية ، عاد إلى الغرفة فيجدها جالسة أمام مرآتها تسرح شعرها وكأن شيئاً لم يكن ، ولحاف سريرها نظيف من أي نقطة دم ، وتقول بصوت خافت : ما هذا ؟ متى أتيت يا بني ؟! هل نجحت في المقابلة ؟...
عمر : نعم !!!! متى أتيت ؟!! وظيفة !!!؟ اذاً من فتح الباب لي ؟ والطين ؟! والمرآة ! والدم وعيناكي ؟! أنا لم أعد أفهم شيئاً ؟!...
أجابت : كل ما يحصل بسبب الغرفة يا عمر .. أنا نصحتك بعدم دخولها لكنك لم تسمع كلامي !..
انتفض جسد عمر بمجرد سماع كلمة الغرفة ، بدأ يبحث بعينيه في كل زوايا غرفة والدته حتى وجد ميدالية المفاتيح ، أخذها بلمح الصبر وركض إلى الغرفة الغامضة قبل أن تكمل والدته حديثها .
يردد عمر بينه وبين نفسه : لن أخرج من هذه الغرفة اللعينة حتى أفهم الحقيقة كاملة .
دخل الغرفة وأقفل الباب على نفسه ثم أشعل المصباح و اتجه نحو المكتبة مباشرةً ، كان الدرج ما زال مفتوحاً والورقتين فوق بعضهما البعض كالسابق ، لكن ورقة الرموز كانت فوق الأخرى ، بنفس صورة والدته قبل أن تختفي منذ يومين ، و بمجرد ما اقترب ليلمس الصورة اختفى نور الغرفة ، واختفى أي بصيص نور كان ينبعث من الباب ، والصوت المخيف عاد يتردد في أذني مرة أخرى .
" اليوم نهاية أحد منكم . إما تكون أنت أو هي ! ولك حرية الاختيار !...
رد عمر : من هي ؟! ومن أنت ؟! وماذا تريد منا ؟!
يجيب : أنا قدرك ، وليس من حقك أن تعرف أكثر من هذا ..
فجأة عاد النور إلى الغرفة ، لينظر خلفه فيرى مخلوق مخيف بملامح شيطانية ، وجلد متشقق وشعر كثيف في كل مكان ، حتى في عينه نفسها التي كان ينظر بها نظرة لن ينساه بعمره ، تجمد في مكانه وصرخ بأعلى صوت ، ووالدته تطرق الباب بكل قوتها وتبكي خوفاً على ابنها ، حتى ركض تجاهه وقرر الخروج ، وبقي هو بمكانه من غير أي حركة ، فيتفاجئ أن والدته ليست موجودة أساساً خلف الباب.
ركض اتجاه غرفتها ، لكنها لم تكن موجودة فيها ولا في أي مكان أخر في المنزل وكأنها اختفت .
بدأ يصرخ ويستغيث بالناس من حوله ، ولكن لم يسمعه أحد ، بدأ الأمر يزداد تعقيداً ، وعاد صوت والدته وصراخها من نفس الغرفة التي كان متواجد فيها منذ ثواني ، الغرفة التي أصبح دخولها أكبر هاجس له في حياته ، ولكن لم يكن لديه الخيار سوى أن يعود إليها ليعلم ما يحدث .
كان المشهد مرعباً بكل ما تعنيه الكلمة ، كانت والدته جالسة على ركبتها تتوسل إلى ذلك المخلوق المخيف ، وهو يمسك الورقة بيد واليد الأخرى يشير بها إلى عمر ويقول بصوت خافت وواضح :
ابنك مضى على العقد و تنازل عن حياتك مقابل حياته ، وانت ما زلت مصممة على أن تموتي من أجله ؟!
والدة عمر : أرجوك ، لا علاقة لابني بصراعنا ، والده توفى وأنا سأموت ، هكذا تكون قد انتقمت منا ، ولا علاقة لابني بهذا ..
انتهت جملتها وبدأت والدته بالتحول ، أصبح يتساقط شعرها وجلدها ، وأسنانها تبرز بطريقة مخيفة وعينيها تمتلئ بالشعر وتتحول لهيئة أقرب ما تكون لهيئته ، وتبدأ بعدها بصراع مع اللا شيء ينتهي بموتها ، لم يستطع عمر استيعاب الموقف وبدأ جسده يرتجف بالكامل .
وقال المخلوق المخيف : والدك ووالدتك ليس بشراً مثل ما كنت تتخيل ، بل كانوا جزء من قبيلتنا قبل أن يتمردوا على قوانيننا ويفضلوا الهيئة البشرية على هيئتنا ، لذلك يجب أن يتعاقبوا هم وكل من نسلهم.
بدأ يقترب من عمر وأصابع يديه تتحول إلى مخالب مخيفة ، غرزها في صدره ليقع على الأرض ، ويسيل الدم بغزارة منه ، وينعزل عن الدنيا لدقائق ليستيقظ على اهتزاز مزعج !!..
فتح عينيه ليرى نفسه وسط حشد من الناس مجتمعين فوق رأسه ، وهو ملقى على الأرض ، لا يستوعب ما الذي يحدث حوله.
وقال : أين أنا ؟ ما الذي يحصل ؟! من أنتم ؟
يجيب أحدهم : أنت في مركز الهجرة والجوازات ، أغمي عليك منذ ساعة نتيجة انتظارك تحت أشعة الشمس القوية .
كان هذا رد أحدهم ، والذي جعله يتأكد أن ما حصل مجرد كابوس ، ويتأكد أن ساعة واحدة قد تؤدي به إلى الجنة أو الجحيم الذي كان مجرد تخيله من أبشع ما يكون .
تعليقات
إرسال تعليق